top of page

مقاربة خارقة للبنية الكلاسيكية والتعبير المعاصر



تجليات الإبداع في أعمال نصر ورور


إليزابيث روجرز

نيويورك ٢٠٠٨
مؤرخة وباحثة في فنون الشرق الأقصى
مجازة في الفنون من جامعة هارفرد، وفي معهد الحضارات اللغات باريس، وفي جامعة بكين وفودان، وفي جامعة ييل

في تجاوزالتعريفات الجغرافية والجندرية، والصهر المتزامن للقديم والمعاصر، تتداخل التعريفات الزمنية والمكانية، والطاقة الإبداعية ورؤية الفنان ومخيلته تبثّ الروح في العمل الفني. ومثل هذه الروح الإبداعية تشارك تجربة النفس الديناميكية، بالنعمة المطلقة أو اللامتناهية (البعد المكاني للضوء). وفي مواجهة التسويق الاستهلاكي الواسع للفنون البصرية، في زمننا الراهن، فهناك حاجة ملحة لاستدراك أهمية القوة الإبداعية في الحياة وحاجة أولئك الذين يمارسون العمل الإبداعي إلى الدعم من كافة مستويات المجتمع.


منذ سلسلة جنوب الجسد، وما بعدها في الأعمال الأحدث زمنياً، يسجّل الفنان السوري المقيم في دبي نصر ورور، مثل هذه الرحلات بوصفها "دعوة إلى تغيير هوية المسافة بين اللوحة والعين".


لطالما كان الفن في الحضارات القديمة جزءاً لا يتجزأ من المجتمع والثقافة والدين. فمنذ أقدم الأزمنة نسجت فنون العمارة والأنشطة الطقوسية، تداخلاً بين الرمز والشكل، بين الصورة والمعتقد. وبالمثل، فإن المشاهد للعمل الفني و/ أو المشارك فيه، يتشاطر مع الفنان الروح الإبداعية الأولية، مستدعياً مشاعره الكامنة والروابط الكامنة ضمن تفكيره ووعيه، مع العمل الفني. في مجموعة الأعمال الجديدة لورور المعروضة هنا. تقدّم هذه الأعمال نظرة مستبصرة لاستعماله وإعادة استعماله لمسطّح الصورة، وترتيبه للعناصر والمفردات المميزة. وهذه الأعمال تشكل مكوناً أساسياً في عمليته الإبداعية وفي معالجته للوسائط الإبداعية.


تتمتّع كل واحدة من اللوحات بحياة خاصة بها، وبعالم خاص بها، كالفرد تماماً؛ الألوان تخاطبني وهي تظهر بأشكال مختلفة، وتدخل عناصر أخرى لكي تروي قصة تتطور حينئذ إلى لوحة! تتمتع الألوان بسماتها الخاصة، وبمناظرها الطبيعية وثقافتها. ويسع المرء أن يفهم بصورة أفضل تاريخها ورموزها عندما يعلم أصولها وتوافقها مع وضعها الجغرافي وطبيعتها. وتقترح أعمال نصر المرسومة بالحبر الهندي امتداداً لمعجم كاليغرافي سابق؛ فحركتها نابضة بالحياة، حتى لتكاد تكون شعرية متحررة من الترتيب المعزوّ إليها في الفضاء المكاني.


ومع انتقال الثيمات وبؤرة التركيز في عملية الخلق الفني من المباشر المحسوس، إلى تجريدية الميتافيزيقيات والروحانيات، فإن الصور والسرديات الموظفة في العمل تتخذ شكلاً جديداً ويجري تأويلها واستحضارها، وتحويلها إلى ما فوق طبيعية وما وراء مادية. على الفور ينصهر الروحاني والفلسفي والتجسيدي في مستوى واحد. وثمة سياقات اجتماعية ودينية محددة تملي إلى أيّ مدى ولكم من الوقت تحتفظ هذه الأيقنة بأهميتها وبقدرتها التحفيزية، ومع ذلك فإن الأنماط الأسلوبية تدور حول دوامة فوضوية ظاهرياً ومفتقدة البنية، وبالتالي يخضع مدى استمرارية الفن إلى حد بعيد إلى معيار قوة الموقف الفلسفي/ العاطفي وجاذبيته.


لقد اهمل كمّ مفرط من النتاج الثقافي التركيز بصورة مطلقة على العنصر الخارجي، على التعبير الفيزيائي المحض. وقد مكّن التجريد والخيال، كما الأنماط الفنية المستنبطة، من المزج بين تأثيرات وأنماط ثقافية متنوعة وذلك في سياق تنقلات الشعوب وتحركاتها. في كتابه "التجريد والفهم: مساهمة في سايكولوجية الأسلوب (لندن، 1954، ص 16)، كتب فيلهلم ورينجر: "معذّبة بالعلاقات المتداخلة المتشابكة وبتدفق ظواهر العالم الخارجي، فإن مثل هذه الشعوب شعرت بالحاجة الماسة إلى السكون. ولم تتكون السعادة التي سعوا إلى تحقيقها من خلال الفن، من احتمال أن يسقطوا ذواتهم على أشياء العالم الخارجي، والاستمتاع بأنفسهم فيها، بل في إمكانية إخراج الخاصية المميزة للعالم الخارجي من اعتباطيتها واتفاقيتها الظاهرة، ومنحها شكلاً خارجياً بصورة تخمينية اعتماداً على الأشكال المجردة، وهكذا العثور على بقعة من السكون، وعلى ملاذ من المظاهر. ويسعنا القول إن الدافع الأكثر إلحاحاً لديهم كان يكمن في إخراج شيء العالم الخارجي من سياقه الطبيعي، من التدفق اللانهائي للكينونة، بهدف تنقيته من كل اتكاليته على الحياة، أي كل ما هو اعتباطي فيها، وجعله ضرورياً مفحماً، وإعادته إلى قيمته المطلقة".


كتب نصر عن عمله

"مجموعة مجموعة جنوب الجسد ليست رسوماً تصويرية أو قضية موزعة على ثلاثين لوحة، ولا هي قصيدة أو قصة محدودة ببداية وخاتمة. بل هي دعوة للاحتفاء بوجودنا".

فرشاته تجسد الطاقة وتستمد إلهامها من كل جوانب الطبيعية، ومن تقاليد متعددة الأجناس (عربية، إسلامية، ميتافيزيقية، صوفية، الشعري والنحتي)، ومن اتصال الحياة الذي يقبل الجدل. سواء على القماشة أو في منحوتات، فإن ضرباته الشعرية ذات التجريد الكاليغرافي تتمازج مع رموز مجازية ويومية. صور الأقدام على نحو خاص، تظهر بوصفها "نقاط اتصال"، وكذلك البورتريهات الجانبية، العيون، الحلي، العناصر المعمارية، الفضاءات، والمدارات.


في أثناء العمل (الرسم والتلوين والنحت)، يبقى الجسد معظم الوقت منفصلاً. ولكن أحياناً، في مرحلة ما، يتحد مع الفكر. حينئذ يشعر الفنان بحال من الوجد وبمستوى أعلى من اللحظات التعبيرية في العملية الإبداعية. وسرعان ما أنه – بعد أن تنقضي تلك النشوة التي تستمرّ لكسور من الثواني - يمكث هناك ويستقر في إطار آصرة أعمق ودائمة التأثير.


على الفنان أن يعمل بالمواد. وبالتالي فإن الفكر والحياة الماديين يصطبغان بحساسية أكثر تطوراً. لا يكف الفنان عن التجديد، إعادة الاكتشاف، والكشف عن هذه الطاقة وذلك الاستبصار المطلق. عبر عناصره البدائية والأولية، ذكرياته الميثولوجية، تصوير الحقيقي واللا حقيقي، يتنقل باستمرار من الدقيق جداً إلى الجليل الكلي.


وبما أن انتقال الفن وسيلة للتعبير البشري، للوصول إلى بعد مضموني أكبر، هكذا فإنه يتواصل مع الخارج عبر الفنان- أأداة للتواصل - ويؤثر على المشاهد المجهول. في بعض الأحيان، تظهر جوانب من التصوير البشري على القماشة، البشري كعنصر موروث في الكوني، من الشكل إلى اللاشكل (فلنتذكر هنا الفنان الشاعر المعروف رابيندراناث طاغور)، في حالة شبه موقرة من الطبيعة. نصر كما يبدو أكثر في أعماله الأخيرة، مثل "النعم الثلاث"، و"شاعر فليبوليس"، يفتح الحواس لكي يشعر بالطاقة. كلاسيكية بيد أنها مألوفة، تلك الخطوط والكتل اللونية والمسطحات الدقيقة في تلوينها. تتنقّل عينا المشاهد بين هذه الأعمال الخصبة الأكثر خفاء، مثل أقنعة المادة، بتسارع دراماتيكي لحلم اليقظة العفوي، المتدفق كما في الشعر.


يشير Mihaly Csikszentmihalyi في مجلده الملهم "الإبداع. التدفق وسايكولوجيا الاكتشاف والابتكار"، إلى أن الإبداعية لا يمكن فهمها من خلال النظر فحسب إلى الناس الذين يبدو أنهم يحدثونها. بل هو يؤكد على دور المشاهد – الأفكار الخلاقة تحتاج إلى جمهور مستقبل لكي يسجلها ويحققها. ويتابع ملاحظاً أن الإبداعية تنشأ من التفاعل ضمن منظومة تتكون من ثلاثة عناصر: ثقافة تحتوي على أدوار رمزية، شخص يأتي بالابتكار إلى المجال الرمزي، وحقل من الخبراء الذين يلاحظون الإبتكار ويؤكدونه. ومثل هذا التزامن يؤكد على أن الإبداعية هي العملية التي من خلالها يتغير المجال الرمزي في الثقافة.


تأملات في طبيعة الفن


في مقاله التأسيسي "أصل العمل الفني" (الطبعة الثانية، يونيفرسال ببليوتيك رقم 8446/ 47، منشورات شتوتغارت 1960)، يزاوج الفيلسوف الألماني بين تفكيره حول طبيعة الفن وتفكيره في الكائنات البشرية. وقد قدمت دراسته أصلاً كمحاضرة في نوفمبر من العام 1935 لـ Kunstwissenschaftliche Gesellschaft في فرايبورج، ونشرت بعد ذلك في "الشعر، اللغة، والفكر" (كتاب بالإنجليزية ترجمه وأعده ألبرت هوفستادر بموافقة هايدغر، ونشر في 1975 من قبل دار نشر هاربر أند رو).

يقول: "أجل، هل يمكن الوصول إلى العمل بذاته؟ للوصول إلى العمل سيكون ضرورياً نزعه من كل الصلات المعقودة مع أيّ شيء آخر سوى ذاته، لجعله يقف بذاته ولذاته وحدها".


يتابع بعد ذلك: "حسناً بعدئذ الأعمال نفسها تعلق في مجموعات ومعارض. لكن هل هي هنا في ذاتها وبوصفها ذاتها، أم أنها جزء من صناعة الفن؟ الأعمال تعرض أمام التقدير الفني العام والخاص. الوكالات الرسمية تضطلع برعاية الأعمال الفنية والحفاظ عليها. ويشغل الذواقة والنقاد أنفسهم بها. ويؤمن تجار الفن تلك السوق. وتقوم دراسة تاريخ الفن بتحويل الأعمال إلى مواد منهاجية. إلا أنه في كل هذا النشاط المحموم هل نرى العمل نفسه؟".


الرمز يتضمن الدلالة الأعلى للسرد، بوصفه مركباً أو مبسطاً كأكثر ما يكون في فن أكثر أصلية. كما أن الرموز تعرف أوقات قوة ووهن. في ذروتها تتحول ظلالاً تلون كل الوجود اليومي، حتى على الرغم من التعبيرات السائرة، التي قد تكون محددة جداً أو عامة، تفقد كل تشابك أو صلة بتكوينها الأساسي.


في هذه الرؤية الحدسية والوعي الروحي، يعيش المرء في حاضر لا ينتهي. الرؤية تسمو بالفكر، وتهيمن على وهم الزمن تجربة الفضاء والفعل ضمن الراهن. غير أن الرسم التصويري التام في الفن يقصّر عن المثال الفني، وعلى المرء أن يقبل المساعدة. بما أنه متروك في نهاية المطاف للمشاهد لكي يستخدم قواه أو قواها الخاصة في التخيل لكي يقوم بتمثيل مسطح في مستويات سايكولوجية أخرى. السمة الثقافية تنعكس عبر الأشكال والمخيال الذي تعكسه. كتب أندره مرلو: "الثقافة تعيش أو تنشط، ليس بسبب ما كانته في الواقع، فهي تثير اهتمامنا بسبب تصورها عن الإنسان الذي تكشفه أو القيم التي تنقلها. لا ريب في أن هذه القيم تمر بتحولات خلال عملية النقل... واكتمال كل حقبة يكشف لنا ذلك الجزء من الإنسان الذي قامت بوضع معظم ذخيرته" (صوت الصمت، لندن، 1954، ص 31).


ومن هنا أهمية تفاعل المتلقي والمشاهد بصرف النظر عن المسافة الفعلية المادية أو العاطفية تجاه الفعل الإبداعي المعروض. على الرغم من التجارب المشتركة التي تبدو واقعية أو صلبة في الحياة، فمعظم العواطف أو الصور لا تنقل عاطفياً إلا عبر استحضار الذكريات. الفن يجعل مثل هذه المآزق قابلة للاستكشاف، ربما، حتى قابلة للمشاركة، عبر تبادل التصاوير المألوفة وإعادة الترتيبات البصرية – مزج المواد مع لوحة الرسم. المخيلة تحبك الرسوم، كاشفة عن طبقات ضائعة فاعلة، حتى تلك التي ذات مغزى ثقافي محدد. كما كتب المحلل النفسي السويسري يونغ ولاحظ عبر عمله على الأحلام، ثمة رموز كونية، قد ثبتت نفسها في وشائج ثقافية يائسة فعلاً عبر الزمن والعالم.


يعكس فن نصر ورور التجذر، الصلة مع مخيلة الماضي في الجماليات التقليدية، في حين يكون مبدعاً ذا نسق كوني. بيد أنها حقيقة اللازمنية، حقيقة وجود خيط متصل منسوج عبر طبقات سرية من العقل والجسد والروح واللون، هذه الحقيقة هي ما يجعل المتاحف نابضة بالحياة، ويوفر أهميتها للمجتمع وللأفراد على السواء. فهي تلهم المخيلة، التي لا تعدم يوماً للأدوات أو الاستعارات. الحوار يتوقف فقط لكي يبدأ من جديد مع مشاريع دائمة ومؤقتة، مع برامج تعليمية وثقافية، وبالتأكيد مع المنشورات. الأنطولوجي ينتصر هنا.


نوام جابو الفنان البنيوي، أيّد اعتناق كون بديل، وإن كان شخصياً، كون مواز نوعاً ما. أكثر من ذلك فإن مثاله نشر حقيقته السامية. "أرى أن المعرفة ليست شيئاً خارجنا... نحن نعرف ما نفعله فحسب، ما نقوم به، ما نبنيه، هو وقائع. أسميها وقائع... ولا واقع أبعد من هذا الواقع (مثل هذه الصور) إلا عندما نقوم -في عمليتنا الإبداعية - بتبديل الصورة، ثم نكون قد خلقنا وقائع جديدة (رسالة إلى هربرت ريد، فلسفة الفن المعاصر، لندن، 1951، ص 94). إبداعات نصر ورور الأخيرة تستكشف حرية أيقونية معتنقة حديثاً، تقريباً شعر مرسل، مقاربة خارقة للبنية الكلاسيكية والتعبير المعاصر.


bottom of page