جريدة السفير
١٣ ١٠ ٢٠١٠
العدد ١١٧١٦
احمد بزون
قد تكون صدفة أن يحمل معرض الفنان السوري نصر ورور العنوان "غبارنا الطلع – The Dust Between" نفسه لمجموعة أدونيس الشعرية، التي صدرت مؤخراً في دبي تحت عنوان "فضاء لغبار الطلع".
وفي أي حال فإن لغبار الطلع معنى واحداً معروفاً هو غبار تذكير الأزهار، وإن كانت له تأويلات مجازية مختلفة، وبين غبار لوحة ورور وغبار أدونيس الذي يذكر به أنوثة الأمكنة الكثير من الفروق الآلية، ذلك أن من يتطلّع إلى غبار المعرض يجد الغبار غارقاً في الشكلانية الخارجية، إذ نرى كيف يتحول الغبار المجهري إلى نقاط ملونة بارزة تتوزع على فضاء اللوحة المؤنث عموماً.
ربما فرض العنوان نفسه علينا لنبدأ بالغبار، نتقصى حضوره في المعرض، ونترصد فيض ألوانه في اللوحة، وتشكلاته داخل المساحة، أولاً، كمفردة تشكل سطحاً إضافياً سابحاً في فضاء اللوحة، ثم كبعد لوني يكسر حدة الأبيض والأسود، ويسرق النظر بحركته وتشكلاته المتباينة، ما يزيد من تركيبية العمل ويكثف من ديناميته.
تراث وحاضر هذا الغبار أو النقاط السميكة البارزة في المساحة تأتي، مرة، منسجمة مع السياق التأليفي العام، ومرة أخرى على قدر من الإقحام، ما يثقل فضاء اللوحة، حتى أنه يتحول بحضوره المكثف في بعض اللوحات إلى مفردة بصرية زخرفية ليست أكثر
مع ذلك ليس الغبار موضوع اللوحة أو المعرض الذي يقدمه نصر ورور، بل هو بمثابة الضيف الخفيف أو الثقيل عليها. فلا يشغلنا الغبار عن طبيعة ما يقدمه الفنان من طرح أو خيار تشكيلي. فهو لم ينحز بما يقدم إلى تيار معروف، ولا إلى مدرسة مدروسة، إنما وجد لنفسه مكاناً خاصاً إلى حد بعيد.
قد نتحدث عن نثرات علاقة بالهولندي كارل آبل الذي غادر دنيانا منذ سنوات أربع، أو نجد في بناء لوحته ما يقترب من التكعيبية، أو نتحدث عما هو أكثر حداثة فنجد ما يقترب في تجزيء لوحته من البناء التفكيكي، أو نذهب في اتجاه الكلام عن تعبيرية ترتكز على واقع أكثر قسوة، أو نرتحل إلى رموز تراثية دمشقية وتدمرية، وإذا اقتربنا أكثر قد نشعر بوجود بعض وجوه الفنان السوري الراحل فاتح المدرس وبنائيته...
قد نتحدث، في لوحة هنا أو لوحة هناك، عن ملامح جهة فنية أو أخرى، لكن ما نستطيع قوله إن الفنان ورور وجد خلطته الفنية الخاصة، أي أنه خَبِرَ كل ما ذكرنا واستفاد من التاريخ الفني ليبني حاضر لوحته أو خياره الفني.
إن أهم ما في تجربة ورور أنه ميّز لوحته ولم يكن تلميذاً نجيباً أو تابعاً لأحد. تلك هي القوة الأساسية فيما يقدم، لذا استطاع أن يحقق تشكيلاً صادماً للمشاهد، الذي لا يستطيع إلا أن ينتبه للجدة البصرية التي يقدمها، بل ينتبه أكثر إلى أنه استفاد من بعض آليات مصادره الفنية. ولأننا ذكرنا الهولندي آبل، يمكننا الحديث عن تجربة ورور المستفيدة من المظاهر النحتية، من دون أن يكون النحت ضرورة للاستغراق في الواقع أو تحقيق جاذبية عمودية، فالفنان يفكك الشكل ليأخذه نحو فوضى، إلا أنها الفوضى المتوازنة، بل هي نفسها الفوضى التي تعتمدها العمارة التفكيكية أساساً.
وضعنا ورور أمام أيدٍ وأرجل وأجزاء من جسم الإنسان تتمفصل وتنفصل لتتموضع بشكل غير طبيعي. هو هنا يخلخل الجسم ويشوّهه لمصلحة الفكرة التي يطرحها، فالفكرة هي مركز اللوحة ومحورها وأساس الحركة فيها، بل هي التي تقود الفنان إلى قتل الشكل والتعامل معه كمعطى مفتوح على كل الاحتمالات، كمعطى منتهك ومضعّف، تسهل على الفنان قيادته وتحويله إلى قوة إيحائية. هو يكسر حدة الواقع وسطوته وقوته، مستبعداً تجسيد هذا كفعل مهيمن أو كموضوع ساطع في المشهد، لمصلحة حضور المفهوم أو الفكرة.
تحفيز المخيلة الجمالية التي يسعى إليها الفنان ورور، إذاً، بعيدة عن إفتان العين بشكل خارجي، وقريبة من فتنة تحويل القباحة إلى جمالية يشارك المشاهد في صنعها، أي أن المشاهد يساهم في فك رموز الشكل المركب الذي أمامه، وربما يساهم في إعادة تركيب الشكل المفكك في مخيلته، فاتحاً إياه على احتمالات تعبيرية عدة. هو يوسّع المسافة بينه وبين الواقع.
هذا لا يعني أن الواقع أساس لوحته، لكنه ليس بالضرورة الواقع اليومي، أو الواقع المباشر، أو الواقع الجامد عن لقطة لحظوية. فالموضوع ليس هاجسه الأساسي، والشكل لا يذهب فوراً إلى تحديد الموضوع، إنما آل شيء هنا، أي الخطوط والألوان والأشكال تسخر في سبيل تحقيق الفكرة التي يود الفنان تصويرها.
من هنا لم نجد الفنان ساعياً لتجميل الشكل بقدر بحثه، كما قلنا، عن جماليات داخلية تجريدية. وإذا كان الموضوع الأساس في اللوحات هو المرأة، فإن جمالياتها لا تتأتى حتى من بعض الزخرفات البصرية الهندسية أو اللونية، أو من استخدام الفنان الألوان الزاهية لإغناء المشهد لإنعاش العين، إنما تتأتى من تحقيق الفكرة التي تنعش المخيلة. وهو شأنه شأن التكعيبيين لم يقدّم امرأة جميلة في لوحته، إنما ذهب إلى لعبة هندسية تحرك عين المشاهد، أضاف إليها لعبة إدخال اللون كعنصر بنيوي في المساحة.
لا شكّ في أن الخط الذي استخدمه الفنان، صريحاً وقاسياً، ساهم في إثارة التعبير، وأمّن حركة لافتة ودينامية تضاف إلى دينامية التلوين، بالإضافة إلى أنه عرف كيف يخرجه من الصمت النحتي، أو الصمت الهندسي التكعيبي، إلى حركة أكثر حضوراً وزمنية، خصوصاً عندما استخدم الألوان في حوار تقابلي، مرة، بين الأبيض والأسود في اللوحة الواحدة من جهة، والألوان الزاهية الصافية من جهة ثانية، ما يبرز حركة الجسد المفكك، أو الجسد المستمر في تفككه، في فضاء حر. ومرة أخرى، في حوار تداخلي تتشابك فيه الألوان وتحدث اختراقات سائلة مرة وجادة مرة أخرى.
معرض نصر ورور (الذي يستمرّ في صالة " مسرح بابل" الحمراء، بيروت، لغاية ٢٤ الشهر الجاري) يقدّم طرحاً تشكيلياً لافتاً للمشاهد، لكونه يبتعد عن التقليد والتجارب المكررة والمتداولة في ساحتنا التشكيلية. ثم إنه مدعّم بطاقة مهنية تعرف كيف تتعامل مع تقنية الأكريليك بمستويات متنوعة، وبرشاقة ترافق روح التجديد والتميّز التي يمتلكها الفنان.
١-إضافة: “The Dust Between”
コメント